mercredi 10 février 2016

تلخيص مسرحية سهرة مع أبي خليل القباني لسعد الله ونوس



سهرة مع أبي خليل القباني"  صدرت سنة 1973 عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق السورية، وأعيدت طبعتها الثانية في بيروت اللبنانية سنة 1977م من قبل دار الآداب، وتمت طبعتها الثالثة عن نفس الدار سنة 1981.
يحيل عنوان هذه المسرحية إلى طبيعة العرض السينوغرافي وهو عبارة عن سمر احتفالي ليلي على غرار ليالي ألف ليلة، كما يؤشر على زمنية العرض والتلقي وهو الليل بأسماره وسهراته.وبذلك يكون سعد الله ونوس من مؤسسي مسرح " السامر" إلى جانب توفيق الحكيم في مسرحيته" الزمار" عام 1930م و يوسف إدريس. أما أبو خليل القباني باعتباره رائد المسرح العربي إلى جانب مارون النقاش وفرح أنطون ويعقوب صنوع فيحيلنا على التراث المسرحي سواء الوسيطي منه أم النهضوي.وقد أدمج سعد الله ونوس داخل مسرحيته نص أبي خليل القباني وهو عبارة عن مسرحية استلهمها من تراث ألف ليلة وليلة اسمها:هارون الرشيد مع غانم بن أيوب وقوت القلوب في نفس الوقت الذي اشتغل فيه ونوس على تجربة القباني في إثبات مسرحه ومقاومته لرجال الإقطاع الذين يرفضون استنبات المسرح في البيئة العربية ، وكان القباني رمزا متنورا في عصر النهضة العربية بدفاعه عن المستميت عن ضرورة خلق وإنشاء جوق للتمثيل في التربة السورية، ولكنه سيواجه بقساوة شديدة وسيمنع مسرحه بتحطيمه وإحراقه من قبل رجال الدين والقوى المحافظة. وهذا المنع مازال موجودا في العالم العربي ولكن بأشكال مختلفة إما عن طريق تذليل المبدعين ومضايقتهم ومحاسبتهم ومنع نصوصهم من صدورها وعروضهم من قيامها و إخراجها لترى النور وإما بتتبع رجال المسرح عن طريق مراقبتهم ومحاصرتهم و إيداعهم السجن وتعذيبهم و طردهم من وظائفهم.
أي ماكان يقع في عهد خليل القباني يقع في أيامنا بطرائق مختلفة ولم يبق إلا المسرح المدجن أو المستلب الذي يخدم أهداف القوى الحاكمة لأنه لا يعرف سوى التهريج ودغدغة المتفرجين عن طريق الترفيه المجاني والهجاء الكاريكاتوري والتسلية المغرضة الفاحشة.ويعني كل هذا أن هناك ثلاثة نصوص درامية: نص التمثيلية التراثية المستوحاة من ألف ليلة وليلة التي زمنها العصر العباسي ، ونص الدفاع عن "المرسح" في عصر النهضة عند أبي خليل القباني ، ونص سعد الله ونوس المعاصر الذي يدافع فيه صاحبه عن مسرح عربي تنويري يساهم في التنوير وتحقيق النهضة والتقدم والتغيير الملحمي.

أما طبيعة مسرحية سعد الله ونوس" سهرة مع أبي خليل القباني" فهي مسرحية احتفالية ذات طابع تسييسي تجمع بين الجانب التسجيلي الوثائقي التاريخي لفن المسرح في العالم العربي والجانب الأدبي الذي يكمن في عقدة غرامية سيحبكها كل من غانم بن أيوب وقوت القلوب.

أما مرجع المسرحية ومتناصها فيكمن في استثمار الكاتب لوثائق تاريخية واجتماعية تؤرخ لتجربة أبي خليل القباني في دفاعه عن مسرحه الريادي في سوريا إبان عصر النهضة حيث حولها سعد الله ونوس إلى عرض مسرحي ونص درامي يعالج فيه الكاتب صراع رجل المسرح ضد رجال الدين والإقطاع من أجل إثبات تقاليد الفرجة الجديدة في مجتمع مازال يعيش تحت ظلال التخلف والاستلاب الفكري. وهذا النص التوثيقي الذي رجع إليه الكاتب هو:" لماذا وقفت الرجعية ضد أبي خليل القباني؟"(2)  أما النص الأدبي التراثي الذي رجع إليه من خلال مسرح أبي خليل القباني هو نص:هارون الرشيد مع غانم بن أيوب وقوت القلوب" مع تحويره والتصرف فيه كي يتلاءم مع تصوره السينوغرافي الجديد وأطروحته التي يريد أن يدافع عنها.

وبما أن مسرحية " سهرة مع أبي خليل القباني" من أهم مسرحيات سعد الله ونوس التي تشتغل على التراث المسرحي والتاريخي والأدبي. فما هي، إذًا، مضامينها وقضاياها الدلالية والسينوغرافية؟هذا ما سنعرفه من خلال تسليط الأضواء على المسرحية إن مضمونا وإن شكلا.

إذا انطلقنا من مقدمة المسرحية التي كتبها سعد الله ونوس فإننا نجد مجموعة من الملاحظات التي يوردها الكاتب ويراها ضرورية، وتتمثل في النقط التالية:
1- استلهام التراث القباني " هارون الرشيد مع غانم بن أيوب وقوت القلوب" مع تغييره وتعديله وتهذيب لغته ومواقفه؛
2- المسرحية عبارة عن مستويين متداخلين: يتمثل المستوى الأول في مسرحية القباني التراثية و المستوى الثاني يكمن في مسرحة تجربة القباني الصراعية ضد رافضي الفرجة المسرحية إبان عصر النهضة؛
3- الاعتماد على المسرح التسجيلي الوثائقي في تأريخ الظاهرة القبانية التي استهدفت تنوير المجتمع السوري وتغييره في فترة الرجل الضعيف أو الاستبداد التركي؛
4- المسرح حدث اجتماعي واحتفالي يقوم على المشاركة الجماعية والتواصل الحميمي والتوعية ضد الاستلاب والتغريب؛
5- ضرورة تفسير التجربة المسرحية عند القباني بوضعها ضمن شروطها التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية؛
6- في المسرحية شخصيات تاريخية وشخصيات فنية خيالية، فأثناء التعامل مع الشخصيات التاريخية التي وردت في المستوى الموضوعي ينبغي أن نتعامل معها كأقنعة ورموز فكرية وإيديولوجية وكممثلين يمثلون تيارات ذهنية معينة، ولا ينبغي الاهتمام بالجوانب النفسية والشخصية والإنسانية لهذه الشخصيات؛
7- للمخرجين الحرية في تقديم فصل الولاة بالطريقة التي يريدونها والتقيد بخطة الكاتب غير ضروري؛
8- يمكن في توزيع الأدوار الاقتصاد والتكثيف في عدد الممثلين والكومبارس، إذ يمكن لممثل واحد أن يقوم بدورين فأكثر مادام العمل يقوم على وجود مستويين متداخلين.
يتبين لنا مما عرضناه، أن هذه المقدمة توجيهية وتعليمية تساعد القارىء والممثل والمخرج على تمثل العمل الدرامي واستيعابه قصد معرفة الخلفيات التاريخية والإخراجية لقراءة العرض أو فهمه على ضوء هذه الإضاءات التي تساهم في تفسير العمل وشرحه وإخراجه وقراءته قراءة سياقية واعية.
أما عن المحتوى الدرامي لهذه المسرحية، فنجده يرتكز على نصين متداخلين وهما: نص تخييلي فني يتعلق بمسرحة قصة هارون الرشيد مع غانم بن أيوب وقوت القلوب ونص واقعي يرتبط بالتجربة القبانية ومسرحه النهضوي الريادي. لذلك، تتضمن المسرحية عقدتين: العقدة الغرامية والعقدة التاريخية.

أ‌- العقدة الغرامية:

يستلهم أبو خليل القباني من كتاب ألف ليلة وليلة قصة غرامية تتعلق بغانم بن أيوب الذي خرج من الشام ليتاجر في تجارة أبيه ، ولما وصل العراق حقق كثيرا من الأرباح والفوائد والمكتسبات المادية ، لكن صديقه سيموت في الطريق ويضطر إلى دفنه في إحدى قبور بغداد مدينة السلام. وعندما انتهى الدفن عاد المشيعون إلى المدينة وتأخر في البكاء على صديقه وتأمل الموت. ولما عاد إلى المدينة وجد أبوابها قد أغلقت؛ مما دفعه الأمر للعودة إلى المقبرة حيث صديقه ليختلي في ذلك المكان. وفجأة، يرى مجموعة من العبيد يحملون صندوقا يضعونه داخل المغارة، وبعد ذهابهم نزل غانم من الشجرة التي كان يتستر بها ونزل إلى الصندوق معتقدا أن فيه كنوزا وأموالا. بيد أنه سينبهر عندما يجد داخل الصندوق جارية حسناء ناصعة الجمال والبهاء، نادرة الحسن والصفاء. وعندما أخرجها من الصندوق، استغربت قوت القلوب لهذا الوضع الغريب وأعجبت بشجاعة غانم ومروءته وعفته وأخلاقه السامية، فانجذب كل واحد إلى الآخر: عشقا وحبا ووصالا.
فقرر غانم أن يتزوجها، لكن قوت القلوب أخبرته بأنها جارية خليفة المسلمين هارون الرشيد، وأن زوجته زبيدة دفعت بها الغيرة بتنسيق مع عجوز إلى إبعادها ونفيها و محاولة قتلها قصد التفرد بالخليفة.وفي مكان آخر ألا وهو القصر، تدبر زوجة هارون الرشيد مأتما لدفن قوت القلوب بعد أن أعلنت وفاتها بتدبير من العجوز قصد إبلاغ الخليفة بالنعي. ولما وصل الخليفة وجد الجواري والعجوز الشمطاء يبكين قوت القلوب التي كان يحبها الخليفة حبا جنونيا إلى درجة إهماله لواجبات الدولة وتعطيل مصالح وقراره أن يعلن الحداد في البلاد عاما كاملا.ولكن الخليفة سيتصنت إلى جاريتين تكشفان أن زبيدة قامت بحيلة ذكية مع العجوز لإبعاد الجارية الحسناء التي ذهبت مع عشيقها غانم إلى الشام ، والهدف من كل ذلك اختلاء زبيدة بهارون الرشيد وإبعاده عن الجواري الحسناوات الموجودة في القصر بدافع الحسد والغيرة. وأخذت الحمية هارون الرشيد وركبه الغضب فطلب من جعفر ومسرور أن يحضرا الجارية قوت القلوب وأن يقتلا غانم ولو كان في باطن الأرض ماداما ارتكبا خطيئة الوصال غير الشرعي. وعندما أحضرت الجارية الجميلة سجنها الخليفة وقرر قتلها.
وعندما حان وقت الإعدام، وضع على عينيها غطاء استعدادا لتنفيذ القتل. وفي تلك اللحظة، بدأت تناجي حبيبها غانم وتصفه بالعفة والشرف وبراءة حبهما وعدم إفراطها في عرضها وشرفها. آنذاك سمعها هارون الرشيد ففك أسرها وطلب منها أن تسأله ما تريد، فاختارت أن تتزوج من حبيبها غانم فقبل الخليفة وشجعها على ذلك وطلبت منه أن تسعى جاهدة للبحث عنه بعد أن عبث الخليفة بممتلكات أسرته في الشام وخرجت هائمة للبحث عن غانم. وبعد تجوال وبحث وتنقيب، توصلت قوت القلوب إلى عشيقها غانم الذي بدوره وجد أمه ظهرة وأخته فتنة. وقررا الزواج بمباركة هارون الرشيد الذي أراد بدوره أن يتزوج أخت غانم الحسناء وهي فتنة. فكانت الفرحة عارمة، إذ حظي غانم وقوت القلوب بكثير من الأعطيات والمنح المالية. وأصبحا سعيدين في ظلال العش الزوجي.وهكذا، انتهت القصة الغرامية ذات الملمح التراثي بنهاية سعيدة قوامها جمع الشمل و تحقيق الزواج.

ب- العقدة التاريخية:

يستقرىء سعد الله ونوس في المستوى الموضوعي الثاني التجربة المسرحية لأبي خليل القباني من خلال الاعتماد على المعطيات التاريخية والوثائق النادرة والقليلة الموجودة لديه إلى أن جعل هذا المستوى المسرحية نصا وثائقيا ومسرحية تسجلية أو تحقيقا ريبورتاجيا عن فن المسرح ولكن بطريقة درامية أو أدبية تغلب عليها سمات الكتابة الصحفية. ومن ثم، يعود بنا الكاتب إلى منتصف القرن التاسع عشر في ولاية عربية من الولايات التابعة للدولة العثمانية أو الرجل المريض وهي ولاية سوريا وبالضبط في دمشق بأجوائها الداكنة وأصالتها العريقة. ومن المعلوم جدا أن الدولة العثمانية فرضت على الشام سياسة استبدادية حديدية قائمة على القهر والقمع في عهد الخليفة المطلق عبد الحميد الثاني.
وقد حولت سوريا إلى إقطاعية للاستغلال ومص دمائها ونهب خيراتها وإذلال سكانها وتجويع شعبها وإرسال أبنائها إلى ساحات الحروب التي خاضتها الإمبراطورية ضد الشعوب المجاورة ولاسيما روسيا. وقد خرجت الإمبراطورية منها بهزائم متوالية أثرت على الولايات العربية ونتج عن ذلك ظهور جمعيات ومدارس التعليم والحركات السياسية المناوئة للإمبراطورية وحاكمها المستبد عبد الحميد الثاني الذي عطل الدستور وقتل الوطنيين الأحرار ورمى الكثير منهم في قاع البوسفور.وكان تعيين الولاة في سوريا ينم عن عبث وسوء تسيير وفساد في الحكم بالعاصمة الآستانة، حيث كان الولاة يعينون بالرشوة مما يدفعهم ذلك إلى الفساد وعدم الاهتمام بمصالح الرعية وترك سكان الولايات عرضة للجوع والفقر والجهل والأمية والاستبداد وارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة وكثرة الضرائب وبطش رجال الإقطاع ونفاق رجال الدين الذين كانوا يباركون سياسة السلطان والوزراء الولاة ويتملقون لرجال السلطة خوفا على ممتلكاتهم ومصالحهم الخاصة وما تدره الأوقاف عليهم. هذا الفرش التاريخي والسوسيولوجي هو الذي سيضيء لنا تجربة القباني وموضعتها في سياقها الحقيقي.

يبدأ أبو خليل القباني باستقطاب أهل حيه وأصدقائه وجيرانه لعرض فرجته الدرامية في المنزل الذي كان يسكن فيه بدمشق.وستثير هذه الفرجة انتباه الناس إلى فنه الجديد الذي أبهرهم بروائعه الفنية. وبعد ذلك، سيبدأ القباني في تقديم عروضه المسرحية بعدما بدأ الناس يتعرفون على"مرسحه "الجديد الذي أخذه من الغرب ليستنبته في تربة دمشق الفيحاء بعدما أن سبقه في ذلك مارون النقاش في لبنان. وكانت عروضه بالمقابل (دفع ثمن التذكرة)، إلا أن الذين كانوا يدفعون في البداية هم الفقراء والطبقة المتوسطة أما الأعيان وأصحاب النفوذ فكانوا لا يدفعون شيئا بل يسببون أحيانا في تعكير الجو وإثارة الشغب والفتنة داخل الصالة. وبعد انبهار الناس بمسرح القباني بدأ أصحاب الكراكيز ورجال الدين ( أبو أحمد وسعيد الغبرا ) يعارضون مسرح أبي خليل القباني لأنه يتناقض مع مصالحهم الشخصية ومآربهم الخاصة ولاسيما أن كاراكوز أبي أحمد لم يعد يثير انتباه الناس وبدأت أرزاقه تقل وكذلك حلقة الشيخ الغبرا تقل وأوقافه تنقص.لذلك، سلطا كل غضبهما على القباني ومسرحه الجديد، إذ اعتبراه بدعة وكفرا وضلالا ابتدعه الأجانب وماخورا ينتشر فيه الفسق والعصيان وتكثر فيه الرذيلة وسوء المروءة، خاصة أن مسرح القباني كان مسرحا شاملا فيه الحكايات القصصية والغناء والرقص والشعر والطرب وكل الفنون الجميلة الساحرة التي تبهر العيون والآذان.

" أبو أحمد: ما يفعله القباني وزبانيته، العمى لا تجد اليوم على ألسنة الناس إلا حديثه أينما ذهبت يرددون لك الأعاجيب عن حفلته وبراعته، وهذا الفن الذي ابتدعه.
أنور:أمس حضر الوالي حفلته وكان شديد الرضى.
أبو أحمد:أي نعم... واليوم استأجر ابن القباني كازينو الطليان، ليقدم عليه مساخره... ولكن لاعتب عليه، إذا كان حضرة الوالي بكل هيبته ومكانته يأتي فيبارك هذه الشعوذة ويحض عليها.
أنور: ما يفعله ابن القباني ليس شعوذة، فهو يتدرب ورفاقه على فن يتقدم كل الفنون.
أبو أحمد: أأنت تقول ذلك يا أنور أفندي..!وماهو هذا الفن الراقي؟ كم صوتا يستطيع أبو خليل القباني أن ينطق؟ وكم شخصا يستطيع أن يحرك؟ وكم بابة أو فصلا يستطيع أن يؤلف؟ الفن ليس لعبة أولاد.
أنور: كراكوز شيء والمرسح شيء آخر.ومن المهم أن يظهر في الشام جوق للتمثيل... وأن يقام مرسح لتقديم الروايات.
عبد الرحيم: أتخشى أن يسرق ابن القباني الزبائن؟
أبو أحمد: أنا أخشاه!خيمة الكراكوز ليست بنت الأمس.. إنها أقدم من أجداد أجدادنا وقد كانت دائما الفن الذي لا يضاهى... لكن ما يقلقني هو أن يقام مكان علني للمسخرة ولا أسمع من يعترض.
أنور: لا تغلط يا أبو أحمد... هذه ليست مسخرة ولا شعوذة..في البلاد المتمدنة يعتبرون المرسح أرقى الفنون وأعلاها شأنا والناس يعاملون أجواقه بما يليق من الاحترام والتقدير...لهذا لا يجوز أن تظل الشام مقتصرة على خيمة الكاراكوز، ومحرومة من المراسح ومنافعها"(3).

وسيدفع أبو أحمد صديقه الشيخ سعيد الغبرا للوقوف في وجه أبي خليل القباني ومسرحه باسم الدين والفضيلة بعدما انتشرت في البلاد البدع والأمراض والأوبئة والمحن والجفاف والطاعون مما أثر على الناس سلبا. ولكن كان يلاحظ أن الولاة الأتراك كانوا يقفون بجانب القباني ويشجعونه على فنه الجديد ويعتبرون ذلك مظهرا من مظاهر الرقي والتقدم والتنوير؛ مما دفع القباني إلى بيع أملاكه لبناء مسرح كبير في وسط دمشق يقدم فيه عروضه التاريخية والغرامية لتوعية الناس وتهذيبهم ونشر الأخلاق ونقد ذواتهم. لكن الغبرا سيعكر عليه أجواء مسرحه وسيتهمه بالكفر لانسياقه وراء البدع الضالة:
"القباني: خير... ما الخبر؟
الشيخ سعيد: أأنت أدرى مني بالخبر... تترك ذكر الله في حلقات الجوامع لتقيم حفلات ماجنة تنافي الأخلاق والآداب وتعاليم الدين.
القباني:أستغفر الله...لا يا شيخ...ربما أثرت فيك نميمة جاهل...لكن لو رأيت بنفسك ما نقدم في المرسح لما قلت ما تقول.
الشيخ سعيد: لعلك تريدني شاهدا للمباذل وشريكا فيها!
القباني: حاشا... لسنا من أهل المباذل والمجون... ما نقدمه يا شيخ روايات فيها حكم بالغة ترغب في اكتساب الفضيلة، وتقدم للمتفرج مواعظ حميدة.. كل هذا في جو من الأنس اللطيف والسرور البريء.
الشيخ سعيد: متى كان الفجور يرغب في اكتساب الفضيلة! هل تجهل أن التشخيص كالتصوير، كلاهما حرام في الدين؟
القباني: على قد علمي ودرسي لا أعرف أن في الدين ما يحرم التشخيص، ربما لم تعرف البلاد الإسلامية هذا الفن قبل اليوم، لكن ذلك لا يبرر أن نبقى محرومين من فوائده.
الشيخ سعيد: لم يعرفه المسلمون، لا لجهل، وإنما لأنهم أنفوه واعتبروه مخالفة للدين...إن هو إلا بدعة، وكل بدعة حرام.
محمود: ليت شيخنا لا يتعجل الحكم.
القباني: يا شيخ.. هناك أمور كثيرة لم يكن يعرفها أسلافنا، استحدثها تقدم الحياة، فصارت منفعة للعباد...فهل يجوز أن نعتبرها محرمات...ونضيع ثمارها؟
الشيخ سعيد: التقدم الصحيح هو أن نستعيد فضائل الأسلاف وقوة إيمانهم بدينهم.
القباني: والله تلك غاية تأتي بالنسبة لنا في المحل الأول، فما نريد إلا استثارة الحمية في الصدور واستعادة فضل الأسلاف وصراطهم القويم، وفي البلاد الأخرى يجعلون للمراسح أهمية كبرى، فينفقون عليها الأموال الطائلة، ويشيدون لها المباني الفاخرة لعلمهم بأنها ترفع الهمم، وتدفع إلى ما ينفعهم كأفراد وأمم.
الشيخ سعيد: بعد قليل ستجعل المرسح كرواق العلم في الجامع، قد تكون هذه البدعة موجودة في البلاد الأورباوية، ولكن أتريد أن نتشبه بالكفار... من تشبه بقوم فهو منهم... لم يبق إلا أن نأخذ ديننا عن الإفرنج.
القباني: أستغفر الله.. لا يصح أن تتهمنا بالكفر... المرسح ليس بدعة أو كفرا، بل هو وسيلة طيبة لتهذيب الأخلاق... ومعرفة طرق السياسة... في الظاهر يترجم الأحوال والسير وفي الباطن يقدم المواعظ والعبر"(4).

ومع إصرار القباني على مواصلة فعله التنويري عن طريق المسرح وتشجيع الولاة له، دفع الإقطاعيون وأبو أحمد سعيد الغبرا للجوء إلى السلطان عبد الحميد الثاني الذي قمع كل الحريات وعطل الدستور الإصلاحي قصد التشكي مما فعله مسرح القباني من نشر للرذيلة وانتشار البدع الضالة في نفس الوقت الذي كان الأحرار السوريون قد بدأوا في المطالبة بالاستقلال وتأسيس المدارس للتنوير وتوزيع المناشير التي تدعو الشاميين للانفصال عن الدولة العثمانية المستبدة والمريضة والضعيفة على جميع المستويات. فنشرت الدولة العثمانية في عهد سلطانها المستبد جواسيس في الولايات العربية ولاسيما سورية لتعقب المواطنين والإصلاحيين. وهكذا، سيتم القبض على أنور وعبد الرحيم وسينقلان إلى الآستانة قصد التطهير والتعذيب. وفي نهاية الأمر، سيعود الشيخ الغبرا بعد قضاء مصالحه ومآرب أصدقائه من رجال الدين ورجال الإقطاع إلى دمشق مصطحبا قرار هدم مسرح القباني وإحراقه وتتبع صاحبه باللعنات وأدعية الرجم والسب والقذف. وبذلك، انتهت حياة المسرح التنويرية في سورية لينتقل القباني بمسرحه إلى مصر حيث وجد حرية كبيرة لإبداعه الجديد والتقرب من الوطنيين الأحرار الهاربين من بطش الحكومة العثمانية وغطرسة السلطان المستبد.

18 commentaires :

  1. شكرا جزيلا على كل هذه المعلومات المفيدة

    RépondreSupprimer
  2. اريد ملخص الجزء الاول و الثاني

    RépondreSupprimer
  3. لخوت واش هذا تلخيص لجزء الأول

    RépondreSupprimer
  4. واش هاذ تلخيص الجزء الأول

    RépondreSupprimer
  5. بغيت المضمون العام للمسرحية

    RépondreSupprimer
  6. كان عليك تختصروا ولو لقليل

    RépondreSupprimer
  7. اريد ملخص للقسم الاول فقط

    RépondreSupprimer
  8. ❤️❤️♥️♥️ الموضوع المميز في حياتي كلها لم يكن هناك أي وحد مثله

    RépondreSupprimer
  9. ونااااري شحال اللهم نقراها ولا نقرا هاد شي راه بزاااف أو ختاصرو شوية لي قرا هاد شي باز ليه 😂😂

    RépondreSupprimer

تصميم : يعقوب رضا